بين أبي بكر و علي: الأفضال و الفضائل

بين أبي بكر و علي: الأفضال و الفضائل
فضائل الكبار التي تَثبُت للأعلام-قديما و حديثا-لا تُقدِّسهم و لا تعفيهم من عتاب أو حساب، إذا ما بدر من أي واحد منهم ما يسيء إلى شخص، أو يخرم مبدأ، أو يُخلّ بقاعدة، أو يعصف بعرف تواطأ عليه العقلاء، و لو ساغ لكل ذي فضل أن يُفلت من المساءلة، أو أن يُستثنى من محاكمة: لما استقرت أوضاع، و لما أمِنت مجتمعات، و مزية المجتمع الذي أرسى أُسُسَه النبي صلى الله عليه و سلم أنه أصّل لصون المبادئ عن تلاعب ذوي النفوذ، و حمى القوانين التي تُسنّ من تدخلات مَن يُنسب إليهم فضل، بالحق أو بالباطل، و مما يترتّب عما سبق أنْ أرشد بسيرته الزكية أن صلاح الشخص أو ثبوت فضيلة لأحد الأصحاب لا يعني تأهّله التلقائي لتولي منصب أو تقلّد مسؤولية، و هل نذكِّر بما قاله لأبي ذر:"لا تأمّرنّ على اثنين، و لا تولّيّن مال يتيم."بالرغم من ثنائه عليه و تزكيته له بالقولة المشهورة:" يمشي وحده، و يموت وحده، و يُبعث وحده."

أخرج البخاري(5/5) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي."
و أخرج البخاري(5/4) أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم."
و أخرج البخاري(5/5) عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال:" أتت امرأةٌ النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئتُ ولم أجدك-كأنها تقول الموت-قال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتِ أبا بكر."
و أخرج البخاري(5/18)عن سلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، أو قال يحب الله ورسوله، يفتح الله عليه، فإذا نحن بعليّ وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية ففتح الله عليه."
و أخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي."
من دلائل الخلود في مبادئ هذا الدين أن أُرسيت أحكامه الجزئية وقت التنزل بتفصيل شديد، وبخاصة ما تعلق منها بالشعائر العبادية، لأنها توقيفية، و بالمعاملات التي كانت تتمّ في عصر النبوة، أما أمر الحكم و الاقتصاد-كما آل إليه الأمر لاحقا و إلى اليوم-فيُفترض أن تحكمها المبادئ العامة والمقاصد الكلية، إذ هي الكفيلة-عبر المتخصصين في كل زمان و مكان-بإنتاج النموذج المناسب لكل زمان مكان، و هذا الملحظ هو الذي يؤكِّد خلود الرسالة و شمولها، و الذين يحبسون أنفسهم عند حدود النصوص الجزئية، فإن لم يجدوا ضالتهم فيها-و لن يجدوا- قعدوا عن الإفتاء، أو حرّموا ما ابتُدع: فإنهم ينسبون القصور و "القُطرية" لهذا الدين، من حيث لا يدرون.
الفضيلة إذ تَثبت..و الولاية إذ تُفلت
و قد شاءت الأقدار أن يتم اختيار و مبايعة أول خليفة لرسول الله صلى الله عليه و سلم في سقيفة بني ساعدة، بالطريقة التي اتُّفق عليها، و بالرغم من ذلك بقيت أصوات و أقلام تردِّد بطلان اختيار أبي بكر، و أحقيةَ غيره بالخلافة، في سجال لم ينته بالرغم من مرور أربعة عشر قرنا على الحدث، و لا يزال بعض الفكر الإسلامي إلى اليوم يندب ما يصفه بالمظلومية التي مورست عليه، و من أقوى الأدلة التي تُشهر في سبيل إثبات هذا "الحق" قرابة علي بن أبي طالب للرسول صلى الله عليه و سلم، و قول النبي لعلي رضي الله عنه:"أنت مني بمنزلة هارون من موسى."
و فضائل الإمام علي لا تُنكر و قد لا تُعدّ، كما ثبت في الصحيح، و فضائل أبي بكر لا تقلّ جلالة وعددا، و بعض فضائل الأصحاب الآخرين فيها قدر غير قليل من مؤهلات السبق و الريادة، وبخاصة أولئك النفر الذين تحلقوا باكرا حول النبي صلى الله عليه و سلم، و تحمّلوا معه عبء التبليغ، و لو رحنا نقيم المقارنات بينهم لانحازت كل طائفة منا إلى واحد أو أكثر منهم، لكن الفكر المعتدل في هذه الأمة قد حسم أمره-منذ اللحظات الأولى- لصالح أبي بكر رضي الله عنه، استنادا إلى الأمة، و بعيدا عن مراعاة عواطف النسبة أو القرابة.
و الذي لم يفقهه من أصرّ على القرابة-من المتقدمين و المتأخرين- في إثبات الحق المزعوم أن من عظمة هذا الدين أن السيادة فيه للمبادئ و ليست للأشخاص، مهما كانت المراتب التي حازوها، وأن الأمر الذي فصلت فيه هذه الرسالة -لتتميّز عن باقي الشرائع-أن آل الرسول لم يحظوا بأدنى تفضيل دنيوي، مراعاة لمجرد القرابة، و أن المزية الوحيدة التي خُصّوا بها-إكراما للرسول نفسه-هي اقترانهم به في الصلاة و السلام عليه، في الصبح و العشيّ، و أنه لهذا الملحظ-ربما-قدّر الله أن يأخذ معظم أبناء و بنات صاحب الرسالة باكرا قبل موته، حتى لا يتشبّث بهم المؤمنون، و يعقدوا لهم مكانة تشتبه بمكانة الرسول، أو أن يتفرقوا فيهم: فيكون أبناؤه سببا في الفرقة، بعد أن كان أبوهم سببا في الوحدة و لمّ الشمل.
أي الأمرين أجدر بالإكبار و الإجلال؟ و أدلّ على إثبات التميز و توكيد خاصية الخلود لمبادئ هذا الدين؟ أن يُعيَّن بعد الرسول صلى الله عليه و سلم شخص جليل من قرابته-إكراما له بعد مماته- يحوز الإجماع أو لا يحوزه؟ أو أن يُتفق-و لو بالأغلبية-على رجل من الصحابة-ذي سبق و فضل-؟
الذي خلص إليه الفكر البشري-بعد قرون من التخبط-أن آل أمر معظم العقلاء فيه إلى نبذ التوريث في الحكم، لما فيه من مراعاة عاطفية، يُتحسّب فيها للأشخاص أكثر مما يُنظر فيها للمبادئ و المقاصد، و قد بيّنت الأحداث التي أعقبت الخلافة الراشدة كيف أن ترجيح التوريث على الاختيار الحر قد جنى أيما جناية على الأمة، و لو قُدِّم الإمام عليّ على أبي بكر رضوان الله عليهما لما تغيرّ الأمر كثيرا عما حدث، و لكنه المبدأ، و مَن الذي كان سيضمن ألا يؤول الأمر إلى تقليدٍ يكتسب الشرعية لاحقا، بدليل أن الحسن و الحسين رضي الله عنهما قد اقتُرحا للخلافة ضمن هذا المسار، و بدليل وجود فكر سياسي في الأمة يرتبط بالتوريث، حتى و لو كانت السلسلة المقترحة من خيار الأمة، ويبقى مبدأ الاختيار و الانتخاب المحترم-بالرغم من مساوئه الواقعة و المحتملة-أولى بكثير من مبدأ التوريث، الذي انتهى الفكر البشري المعاصر إلى استبعاده و النأي عنه.