العلامة اللسانية عند الآمدي
1- علم أصول الفقه والدلالة:
لمّا كان عهد النبوة وإشعاعه المعرفي لا يزال يؤثر في مجرى المعارف والعلوم، لم يحتج العرب إلى علوم يبسطون فيها قواعد النظر والاستنباط. ولكن ما إن تقادم عهد النبوة، ودخلت أجناس مختلفة إلى الأمصار الإسلامية وبدأت تتفشى العجمة في اللغة العربية، وتبدت مناهج الفلسفة والمنطق الوافدة من علوم الفرس واليونان، رأيت نزوع العلماء نحو الاشتغال العقلي، ومزج فنون النقل بعلوم العقل فكان لزاماً عصرئذ من وضع طرق للاستنباط والنظر خاصّة ما تعلّق منها بنصوص مقدّسة كالقرآن الكريم وأحاديث الرسول الشريفة، فاهتدى العلماء إلى وضع علم أصول الفقه. وكان أوّل من فتق قواعد هذا العلم وأجراه مجرى التطبيق هو صاحب أول مصنّف في هذا المجال الإمام الشافعي –رضي الله عنه- في كتابه "الرسالة". وموقع أصول الفقه بالنسبة للفقه هو كموقع المنطق بالنسبة للفلسفة، إذ به تبرز الطرق الموصلة إلى إدراك ماهية المعاني والأحكام المستنبطة من مظانها، كذلك المنطق به بعضهم الذهن من الوقوع في الخطأ، يقول الدكتور علي سامي النشار: "وأول مسألة ينبغي توضيحها: هي اعتبار علم الأصول بالنسبة إلى الفقه كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسلفة …) وفي الواقع أن اعتبار الأصول بالنسبة إلى الفقه، كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسفة، يبدو واضحاً تماماً إذا ما بحثنا في علم الأصول نفسه"(1) وحقيقة إن علم أصول الفقه يضع أدوات الاستنباط هي أشبه بأدوات المنطق في ضبط القضايا. يقول الإمام الزركشي في كتابه "البحر المحيط" معرفاً أصول الفقه: "فأصول الفقه هو مجموع طرق الفقه من حيث أنها على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها وحالة المستدل بها"(2) ويتقدم الآمدي قبل الزركشي في تعريف علم أصول الفقه فيقول: "فأصول الفقه هي أدلة الفقه وجهات دلالتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(3) . ثمّ احتاج علم أصول الفقه في مرحلة من مراحل تشكله إلى ضوابط لغوية أخذها من تقسيمات المناطقة للألفاظ من حيث دلالتها على المعاني ومن حيث عمومها وخصوصها ومن حيث إفرادها وتركيبها. وإنّ نظرة عجلى إلى استهلالات كتب الأصوليين وتلك التي في كتب المنطق لتؤكد ما مدى صلة علم أصول الفقه بالمنطق، خاصّة، يقول الدكتور علي سامي النشار وهو يتحدث عن تلك المداخل اللغوية في كتب الأصوليين: "وتبدأ هذه الأبحاث اللفظية كما تبدأ كتب المنطق الأخرى بالبحث المشهور "دلالة الألفاظ على المعاني"(4) ومنذ عهد الغزالي دأب الأصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلامية كمظهر من مظاهر تأثرهم بالمنطق اليوناني ومنهم الآمدي صاحب كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" وقد عدّت المباحث اللغوية في تلك الكتب من مسائل المنطق لأن الأصوليين المتكلمين خاصّة، نصّوا على قواعد نظرية المعرفة وذكروا من ضمنها المبحث اللغوي الذي يتناول اللفظ والمعنى وما يتفرع عنه من مسائل، وقد أطلقوا على تلك المقدمات اللغوية المنطقية بشكل عام اسم الكلامية وذلك لاعتبارهم أن المنطق جزء من علم الكلام، إلا أنّ ما يجدر ذكره هو عمق النظرة اللغوية عند الأصوليين بلجوئهم إلى طرق وأدلة خاصّة في تعاملهم مع اللغة، لا يتوفر عليها اللغويون أنفسهم يقول الدكتور علي سامي النشار: "إن المباحث الأصولية اللغوية ليست من نوع علوم اللغة أو النحو العادية. فقد دقق الأصوليون نظرهم في فهم أشياء من كلام العرب لم يتوصل إليها اللغويون أو النحاة. إن كلام العرب متسع وطرق البحث فيه متشعبة، فكتب اللغة تضبط الألفاظ والمعاني الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي يتوصل إليها الأصولي باستقراء يزيد على استقراء اللغوي. فهناك دقائق لا يتعرض لها اللغوي ولا تقتضيها صناعة النحو"(5) . إن المباحث اللغوية ومنها الدلالية على الخصوص، في كتب الأصوليين تتسم بعمق ودقّة الاستقراء، فتخريج الدلالة يتم عبر تفكيك لبنية الخطاب بتحليل عناصره وربط ذلك بالمقام العام الذي يقتضي تلك الدلالة دون غيرها. إن اللغة منظومة لسانية وسيمائية بأنماطها المختلفة في التعبير وأسرار البيان تبدو بارزة بشكل ناضج في بحوث غير اللغويين، كالأصوليين الذين أسقطوا منهج الاستقراء والتدقيق في الجزئيات على اللغة، ذلك لاعتقادهم أن من الأسس الرئيسة لنظرية المعرفة هي اللغة فخاضوا في أقسام الألفاظ والدلالات، فبحثوا الاشتراك والترادف وأفاضوا الجدل حولهما وقسّموا الدلالات بحسب المنطوق والمفهوم من الخطاب، كما أبانوا عن قدرة لغوية في تحديد أدوات ضبط الدلالة المعيّنة فبحثوا الاستغراق والعموم والشرط والاستثناء والتقديم والتأخير والإطلاق والتقييد وغير ذلك مما سيرد ذكره في مباحث الآمدي في هذا المجال، وفضلاً على وضوح المنهج الأصولي الذي يبدأ بما هو عملي وإجرائي قبل مناقشة المسائل النظرية المجردة فقد أكّد الأصوليون على ضرورة الإلمام الشامل بحيثيات الخطاب وظروفه وتجاوز البنية اللسانية للخطاب إلى رصد المعالم الدلالية العميقة، وذلك من أجل الفهم الكلي لفحوى الخطاب، وهو ما أشار إليه علماء الدلالة المحدثون ومنهم تشومسكي) الذي ذهب إلى أنّه لفهم جملة ما يجب أن يكون لدينا معارف أخرى تتجاوز التحليل اللساني لهذه الجملة في كل مستوى لساني، ويجب كذلك أن نعرف مرجع ومعنى المورفامات أو الكلمات التي تؤلفها"(6) .
2-لمحة عن حياة الآمدي وكتابه الإحكام في أصول الأحكام:
إن الركام المعرفي الذي اجتمع في القرن السادس الهجري، كان له أكبر الأثر في بروز أعلام سخّروا حياتهم لإعادة ترتيب ذلك الركام المعرفي وتمحيصه وتذليله حتى يدخل في تفاعل جدلي مع عطاءات القرن، وحاجات أهله من المعرفة والعلم. لقد وقر في الأذهان أن فكر الإنسان لا يمكن أن يعزل عن مجرى عصره وحوادث زمانه ونتوءات أيامه البارزة، فالإطار التاريخي الحضاري الذي نشأ في أجوائه الآمدي جعله يتبوأ مكانة عليّة في عصره، خاصّة وأنّه أتى بعد أولئك الأعلام الذين رسموا المنهاج القويم في العلوم وتركوا آثاراً بقيت على مرّ الزمن، معالم بارزة ومنارات نيّرة يهتدي بها كل عالم متأخر. فقد سبق الآمدي –كما أوضحنا في الفصل السابق- الشافعي- رضي الله عنه- والجاحظ وابن جني وابن سينا وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم.
الآمدي هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي. كانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ففيه أصولي مقدّم في زمانه، اعجب علماء عصره بحسن كلامه وقوّة حجته في الجدل والمناظرة يقول عنه معاصره بن أبي أصيبعة، الذي كانت تجمع أباه والآمدي مودة أكيدة: "كان أذكى أهل زمانه وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية، والمذاهب الشرعية والمبادئ الطبية …) فصيح الكلام جيّد التصنيف"(7) . بدأ الآمدي يشتغل بالمذهب الحنبلي مدّة من الزمن ثم ما لبث أن انتقل إلى المذهب الشافعي، وقد عدّه ابن السبكي فيما عدّ من علماء الشافعية في كتابه "طبقات الشافعية"، كَثُر ترحال الآمدي كما كَثُر حسّاده من العلماء الذين ألّبوا عليه الأمراء والحكام بحجة الاشتغال بالمنطق والفلسفة حتّى وصل بهم الأمر، إلى استحلال دمه، وأمضوا في عارضة قدموها إلى حاكم مصر فخرج متخفياً إلى الشام يقول عنه ابن خلكان: "كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب …) وبقي على ذلك مدّة ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. ثم انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير وتمهر فيه وحصّل منه شيئاً كثيراً ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم"( . لمّا قدم إلى دمشق أكرمه الملك المعظم شرف الدّين بن أيوب وأنعم عليه وولاّه التدريس. وكان نابغة في الشام، لم يرق إلى مقامه أحد من العلماء يقول ابن أبي أصيبعة في ذلك: "وكان إذا نزل وجلس في المدرسة وألقى الدرس والفقهاء عنده يتعجب الناس من حسن كلامه في المناظرة والبحث، ولم يكن أحد يماثله في سائر العلوم"(9) . للآمدي منهاج فريد في التصنيف والمحاجة إلى درجة تبعث على الاندهاش، وذلك لتمكنه الشديد من أدوات الجدل والكلام، ومنها اللغة وعلومها والمنطق ومسائله ولذلك "كان الآمدي) قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال، كثير التشقيقات في تفصيل المسائل، والترديد والسبر والتقسيم في الأدلة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحياناً إلى الحيرة"(10) .
وقد نقل الذهبي في كتابه "الميزان" أموراً هي محل ريبة وشك تخصّ عقيدة الآمدي وهي أنّه كان مستهتراً تاركاً للصلاة، وقد لوحظ ذلك بأن وضعت علامة من الحبر في أسفل قدمه بينما هو نائم ثم تبين أنّ تلك العلامة لم تَزُل من تحت قدمه بعد ذلك اليوم، وقد ردّ ابن كثير هذه الشكوك في كتابه "البداية والنهاية" خاصّة وأنّ هناك من العلماء من لا يرى الدّلك في الوضوء من فرائض الطهارة بل إنّ الحبر قد يبقى أياماً ولا يزول بفعل الوضوء، ومهما يكن فإنّ المصنفات التي تركها الآمدي وخاصّة كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" يدل على احترام ظاهر وتقدير عالم ورع لآيات الله وأحاديث رسوله الكريم وقد نقل عنه ولده جمال الدين محمد بعض ممّا أنشده أبوه لنفسه(11) من ذلك قوله:
فلا فضيلة إلاّ من فضائله
ولا غريبة إلا وهو منشأها
حاز الفخار بفضل العلم وارتفعت
به الممالك لما أن تولاها
فهو الوسيلة في الدنيا لطالبها
وهو الطريق إلى الزلفى بأخراها
لقد ترك الآمدي مصنّفات تربو على العشرين مصنّفاً اختصر بعضها في كتاب جامع، من ذلك كتاب "أبكار الأفكار" في علم الكلام اختصره في كتاب، سمّاه "منائح القرائح" وله كتاب "رموز الكنوز" و "دقائق الحقائق" ولباب الألباب" و "كتاب منتهى السؤل في علم الأصول" و "كتاب كشف التمويهات في شرح التنبيهات" و كتاب "غاية الأمل في علم الجدل" وغير ذلك من الكتب فضلاً على كتاب "الإحكام في أصول الأحكام".
وأقام الآمدي في آخر حياته بدمشق مدرساً بالمدرسة العزيزية ثم ما لبث أن عزل منها وأقام بطالاً في بيته وتوفي على تلك الحال في رابع صفر يوم الثلاثاء سنة إحدى وثلاثين وستمائة ودفن بسفح جبل قاسيون بدمشق(12) -رحمه الله-.
-كتاب "الإحكام في أصول الأحكام": موضوعه وخطته:
أهم دافع يحفّز على قراءة كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" قراءة دلالية، هو وضوح منهجه ودقة موضوعاته، وبسطه لقواعد لغوية وسنن كلامية وتعبيرية، تبدو فيه اللغة العربية منظومة دلالية في حاجة إلى الإحاطة بأسرارها ومعانيها وقدراتها على تحديد المعاني، تحديداً يتجاوز النص المكتوب إلى رؤية تأويلية تعطي لفحوى النص أبعاده الدلالية الخاصّة. وقد أشاد علماء كثيرون بقيمة كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" وعدّوه أحد الأعمدة الأساسية التي أقامت علم أصول الفقه، علماً له قواعده وأصوله وطرائقه ومناهجه، فقد اعتبر ابن خلدون علم أصول الفقه من العلوم المستحدثة في الملّة وذكر علماء هذا الفن السابقين فقال: "وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون، كتاب البرهان لإمام الحرمين(13) ، والمستصفى للغزالي وهما من أشعرية، وكتب العمد) لعبد الجبّار وشرحه "المعتمد" لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه ثمّ لخّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الإحكام"(14) .
كان مشروعنا الأول، هو دراسة أفكار الآمدي الدلالية من خلال كتبه أو على الأقل من خلال أهم كتبه التي بسط فيها هذه الأفكار، لكننا ما إن قطعنا بعض الخطوات في دراسة كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" حتّى تبيّن لنا استحالة ذلك، وأدركنا أن ما جاء في هذا الكتاب وحده لا يمكن أن نفيَ بدراسته في هذا المقام فعدلنا عن الهدف الأوّل واقتصرنا على دراسة جهود الآمدي الدلالية من خلال كتابه الإحكام معتمدين على الطريقة الاستقرائية التي استندنا فيها على ما قررته الدراسات الدلالية والسيميائية الحديثة، وحاولنا إعادة قراءة ما كتبه الآمدي في الإحكام قراءة جديدة آخذين بعين الحذر صعوبة إجراء إسقاطات علمية منهجية لها مرجعيتها التاريخية والإبستيمولوجية، على فترة معرفية من فترات التراث العربي، واحتطنا على ذلك بإجراء مقاربات بين ما أرساه الآمدي من قواعد وسنن لغوية وضوابط دلالية وسيميائية تخصّ الخطاب اللغوي بتجلياته المختلفة، وبين ما تأسّس حديثاً من أفكار ونظريات سيميائية لدى بعض علماء السيمياء المحدثين.
لقد اعتمدنا في دراستنا حول جهود الآمدي الدلالية على كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" بتحقيق وشرح العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، ونسخة ذات طبعة ثانية بسنة 1402هـ الموافق لـ 1981م، هذه الطبعة التي نشرت في دار "المكتب الإسلامي" في أربعة أجزاء يضمّها مجلّدان، لكننا كنّا نرجع بين الفينة والأخرى إلى طبعتين أخريين هما: طبعة دار الكتب العلمية بشرح وتعليق الشيخ إبراهيم العجوز، وهي طبعة أولى بسنة 1402هـ الموافق 1985م. أما النسخة الثانية التي كنت أرجع إليها هي طبعة دار الكتاب العربي، بشرح وتحقيق الدكتور سيّد الجميلي في طبعة ثانية سنة 1406هـ الموافق
لـ 1986م.
لقد رسم الآمدي في كتابه "الإحكام" المنهج والخطة الواضحة لبحثه بحيث يتخذ طرق النظر والملاحظة العميقة مع الجمع بين البحث في المبنى والمعنى كليهما، وفي ذلك تحديد مسبق لإطار الدراسة التي تهدف إلى الكشف عن أفكار الموضوع مادة البحث. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أنّ الآمدي قد برع في السبر والتقسيم وتفريع المسائل، وكان أستاذاً يلقن قواعد البحث للمتعلمين وصاحب منهج في التدريس لم يعرف أحسن منه في عصره، بعد تبيانه لمكانة الأحكام الشرعية، والقضايا الفقهية وفضلها على مصالح العباد في الدنيا والدين وضّح الآمدي السبيل إلى استثمار ذلك فقال: "وحيث كان لا سبيل لاستثمارها دون النظر في مسالكها ولا مطمع في اقتناصها من غير التفات إلى مداركها. كان من اللازمات والقضايا الواجبات البحث في أغوارها والكشف عن أسرارها والإحاطة بمعانيها والمعرفة بمبانيها حتى تذلل طرق الاستثمار وينقاد جموع غامض الأفكار"(15) . ثمّ إنّ تحديد الدلالات اللفظية يمرّ عبر معرفة الأحكام اللغوية في علم العربية كالحقيقة والمجاز وموضوعاتهما الفرعية، والتعميم والتخصيص وأدواتهما والإضمار والتنبيه والإطلاق والتقييد والمفهوم والمنطوق وغير ذلك ممّا يعد مدخلاً مهمّاً لاستنباط الأحكام وقاعدة ينطلق منها الأصولي من أجل إثبات حكم أو نفيه أو تأويله، يحدّد الآمدي أدوات البحث الأصولي فيحصرها في ثلاث: علم الكلام، وعلم العربية، والأحكام الشرعية فيشرح علم العربية فيقول: "أما علم العربية فلتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة، على معرفة موضوعاتها لغة، من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره ممّا لا يعرف في غير علم العربية"(16) .
إن المباحث اللغوية التي ذكرها الآمدي تعدّ مفاتيح ضرورية للولوج إلى المسالك المتعلقة بأصول الفقه الذي يتناول القرآن الكريم والسنة الصحيحة، كمادتين للبحث عن قواعد علمية موضوعية، لضبط دلالة نصوصهما ضبطاً لا يحتمل تأويلات قد تفقد النص دلالته التي تقف وراءها مصالح أمّة بأسرها، أو ضرورة من الضرورات الشرعية. ولذلك كان لزاماً التحقق من الأدلة الفقهية ودلالاتها وموقع المستدل بها، يقول الآمدي شارحاً ذلك: "فأصول الفقه هي أدلة الفقه وجهات دلالاتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(17) . وهو بذلك كأنه يشير إلى علم الدلالة الحديث الذي يقتضي وجود أدلة لغوية وغير لغوية ودلالات الأدلة ثم مراعاة حال المتكلم ومقامه وحال المخاطب وموقعه.
لقد نصّ الآمدي في مقدمة كتابه على دواعي تأليفه "للإحكام" بحيث جعله خاصاً بالملك المعظم شرف الدين بن أيوب ملك دمشق وأهداه إليه وجعل كتابه هذا "حاوياً لجميع مقاصد قواعد الأصول، مشتملاً على حل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول، متجنباً للإسهاب وغث الأطناب مميطاً للقشر عن اللباب…"(18) وقد حدّد الآمدي مسائل هذا الكتاب وقسمها إلى أربع:
- المسألة الأولى: في مفهوم أصول الفقه ومبادئه وموضوعه وغاياته تناول فيه المبادئ الكلامية واللغوية، وأقسام اللفظ ودلالاته، كما بحث موضوع الحقيقة والمجاز والفعل وأقسامه والحرف وأصنافه وعرض لنشأة اللغة وأصلها.
- المسألة الثانية: في مفهوم الدليل الشرعي وأقسامه وما يتعلق به من أحكام، فبحث مسائل شرعية مختلفة تخصّ الكتاب الكريم والسنة المطهرة بالخصوص فبحث الخبر، والخطاب وأقسامه فعرض للأمر والنهي وبسط القول فيهما، كما تناول موضوع العموم والخصوص وأدلة التعميم والتخصيص، كما أسهب القول في الإطلاق والتقييد والإجمال والإضمار والتأويل.
- المسألة الثالثة: في أحكام المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين.
- المسألة الرابعة: في الترجيحات الواقعة بين الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصوّرية والحدود الموصلة إلى التصديقات، تحدث فيها كذلك عن القياس والاجتهاد.
2-العلامة اللسانية أنماطها وأنساقها الدلالية عند الآمدي:
لقد خصص الآمدي في كتابه "الإحكام" مجالاً واسعاً، تناول من خلاله ما يصطلح على تسميته في الدرس الدلالي الحديث بأنماط العلامة اللسانية من خلال البناء الصوري منها وبنائها المفهومي فبحث الأشكال التي تتمظهر فيها العلامة اللسانية ضمن نمطية تخضع لإطراد مفهومي تحدده معايير لغوية من ذلك تناوله للفظ المطلق واللفظ المقيد واللفظ المجمل وما إلى ذلك مما سيرد الكلام عنه، كما قدم الآمدي تحليلاً مستوفياً لقضية أثارها الدرس اللساني الحديث على يد العالم اللغوي دي سوسير، ونعني بها اعتباطية العلامة اللسانية، وقد تناول ذلك الآمدي في إطار بحثه حول نشأة اللغة، وقد أبان فيه عن قدرة كبيرة على التصنيف والتحليل خاصة في تحديده للأنساق الدلالية أو العلاقات الدلالية التي تربط الدال بمدلوله، أو الدول ببعضها البعض أو المدلولات مما يعرف بالحقول الدلالية.
أنماط العلامة اللسانية:
يتخذ الآمدي في تحديده لأنواع العلامة اللسانية مسلكين اثنين: مسلك صوري ومسلك مفهومي يقول في تعيين اللفظ المطلق: "أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات أو هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه"(19) . إن اللفظ المطلق الذي يغطي حقلاً من الألفاظ تتحدد صورته نحوياً، فهو نكرة في سياق الإثبات من ذلك قوله تعالى: فتحرير رقبة مؤمنة). هذا من ناحية القيود الشكلية، أما من ناحية القيود المفهومية فاللفظ المطلق يدل على اشتراك غير محدد في الدلالة بينه وبين حقل من المدلولات، فالآمدي يأخذ في الاعتبار مظهرين متكاملين لكل مدلول في الحقل المفهومي، المظهر الأول يظهر من خلال العلاقة الحتمية التي تربطه بالدال وهذه العلاقة تسجل مكان الدال إلا أنها لا تسمح لنا بتحديده بكيفية إيجابية. والمظهر الثاني يقوم على علاقة هذا المدلول بكل المدلولات الأخرى داخل منظومة العلامات، فكل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور تغطيها صورة اللفظ المطلق، وموقعه من حقل مدلولاته هو موقع اللكسيم الرئيسي في الحقول الدلالية كما صنفها علماء الدلالة المحدثون، ويمكن أن نجد تقاسيم مشتركة بين اللفظ المطلق وبين اللفظ العام واللفظ الكلي، بحيث يكمن الإلتقاء بينها في اتساع مجال إرجاع كل منها، وفي مقابل اللفظ المطلق يأتي اللفظ المقيد وفيه تتحقق الوظيفة الإرجاعية بحيث يعين اللفظ مرجعاً محدداً في عالم الأعيان والأذهان، وهذا التعيين يرتكز على أساسين اثنين: أولهما تعيين أسماء العلم(20) التي لها مرجع واحد محدد لا أكثر وقد تقوم السابقة) prefixe) بالدور الحاسم في تحديد المرجع تحديداً لها يترك معه مجالاً للبس مثل قولنا: هذا الرجل، وهذه المرأة، وذلك المكان وما إلى ذلك. وثاني الأساسين هو التعيين بالصفة وهذا ما بحثه العالم اللساني pierre leriat) في كتابه(21) حيث يقول: التعيين "هو عملية مرتبطة بالكلام ترتكز على تعيين أشياء خارج النظام اللغوي، قد تكون حسية أو مجردة، مادية أو تحليلية)، نسمي الإرجاع الوظيفة التعيينية والمرجع الشيء المعين الذي قد يكون شيئاً مادياً أو مفهوماً مجرداً. وقد أحصى الآمدي طرق تقييد المطلق فذكر منها التعيين باسم العلم والتعيين بصفة زائدة يقول موضحاً ذلك: "وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين:
الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو، وهذا الرجل ونحوه.
الثاني: ما كان من الألفاظ دالاً على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري ودرهم مكي، وهذا النوع من المقيد. وإن كان مطلقاً في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي.
غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه"(22) . وفي هذا الموضع يجري الآمدي تقاطعاً تمييزياً بين اللفظ المطلق واللفظ المقيد، فالمطلق قد تضيق دلالاته فيضحي مقيداً إلا أن اللفظ المقيد قد يقع بين الإطلاق والتقييد كما بين ذلك الآمدي من الأمثلة التي ساقها آنفاً، ولا يأخذ صاحب الإحكام مفهوم الإطلاق أو التقييد قاصراً إياه على الصيغة المعجمية فحسب، بل ويتناوله في سياقات التركيب المختلفة ولذلك يطرح إشكالات نوعية منها إذا وجدت جملتان قد ورد في إحداهما لفظ مطلق وفي الثانية لفظ مقيد من جنس واحد، هل يجوز إلحاق المطلق بالمقيد أو العكس؟.
يستند الآمدي في حل هذا الإشكال على اتحاد السبب واختلافه بين جملة الإطلاق وجملة التقييد، فإذا اتحد السبب كان الإلحاق وإذا اختلف السبب فالنظر إلى العلة الموجبة للإلحاق وإلا لا يلحق مطلق بمقيد.
يشرح ذلك في قوله: "العهدة على اتحاد السبب واختلافه فإذا اتحد السبب فلا خلاف في إلحاق المطلق بالمقيد كما لو جاء في الظهار: "اعتقوا رقبة" ثم جاء "اعتقوا رقبة مؤمنة". أما إذا اختلف السبب فالنظر حينئذٍ إلى العلة الموجبة للإلحاق وإلا فلا ينزل المطلق منزلة المقيد كما لو جاء في الإظهار قولهم: "فتحرير رقبة" وفي القتل الخطأ: "فتحرير رقبة مؤمنة(23) . إن ما أثاره الآمدي في موضوع اللفظ المطلق يمكن فهمه على ضوء ما حدده ليونز) j. Lyons) في مناقشة العلاقة بين التعيين denotation والإرجاع Reference(24) .
فإذا كان اللفظ المطلق يحدد حقلاً معجمياً مفتوحاً وغير محصور، فإن التعيين هو العلاقة القائمة بين وحدة معجمية وما تعينه خارج النظام اللغوي من أشياء أو أشخاص أو غير ذلك، ولنسق لذلك مثل كلمة رجل) فإنها تشرف على حقل غير محصور من جنس معين له سمات ومميزات مخصوصة وإذا كان لكل كلمة تعيينها فإن ذلك يحدد إرجاعها، إلا أن الإرجاع مرتبط أساساً بتسييق الوحدة المعجمية وهذا ما يكاد يكون سمة عامة عند الآمدي الذي يأخذ الصيغة المعجمية غالباً، داخل سياقات مختلفة لأن ذلك هو التعيين الأساسي لدلالتها.
إذا ورد لفظ دال على معنيين أو أكثر ويتعين كلاهما عند إطلاقه، فهو اللفظ المشترك ويدخل في باب المشترك اللفظي، أو ما سماه الآمدي باللفظ المجمل، يقول في تعريفه: "المجمل ماله دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه"(25) . وهذا التصنيف للدوال، يرتكز أساساً على المدلول المتعدد كقولهم: العين: للذهب وللشمس ولمورد الماء، وإذا ورد هذا اللفظ في سياق عام لم يتعين أحد هذه المدلولات مثل قولنا: "رأيت العين". فلفظ "العين" يطرح في هذا السياق إشكالاً دلالياً وهو ما رصده الآمدي في تسجيل ذلك التردد في إنزال اللفظ على أحد المدلولين بسبب التردد في عود الضمير، أو بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء، وجمع الصفات أو بسبب الوقف والابتداء أو بسبب تردد الصفة أو تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته فقولك: "كل ما علمه الفقيه فهو كما علمه "فإن الضمير هو) متردد بين العود إلى الفقيه أو ما علمه الفقيه، وتعدد هذه القضايا اللغوية من المسائل التي أثارها علماء الدلالة المحدثون، يسجل ذلك الدكتور الفاسي الفهري فيقول: "إختيار مفهوم ملائم من بين لائحة المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ المشترك يتطلب مجهوداً معرفياً خاصاً ويتسبب أحياناً في أخطاء(26) ولكن كيف يرفع اللبس الدلالي ويتعين مفهوم واحد من جملة المفاهيم التي يحتوي عليها المعجم الذهني، حول لفظ العين) في المثال السابق يقول الآمدي: "والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال: والإجمال منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الإجمال منتفياً عند قول القائل: "رأيت دابة" لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال وإن كان على خلاف الوضع الأصلي"(27) فالآمدي يحدد منفذين لتعيين مفهوم ملائم من جملة لائحة من المدلولات يختزنها المعجم الذهني وهما: الوضع الأصلي وحقيقة اللفظ أما الثاني هو عرف الاستعمال، إذ اللفظ قد اكتسب عبر السياق اللغوي وقوعاً خاصاً، لأنه أضحى بؤرة لتجميع كل حيثيات المقام الذي يستعمل فيه.
يقول الدكتور الفاسي الفهري محدداً طرق رفع اللبس عن اللفظ المجمل وتعيين مدلول واحد له: "ويقع رفع الإلتباس عن طريق السياق اللغوي المباشر أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر المعلومات المتوفرة لرفع اللبس"(28) . ولكن رغم تسييق الصيغة المعجمية، أو بالنظر إلى إطارها التواصلي، فإن اللبس قد لا يرفع وهذا ما كان يشكل نقطة الخلاف بين جمهور علماء الأصول في تأويل النصوص القرآنية المتشابهة التي يحمل فيها اللفظ أكثر من مدلول واحد، ولذلك دأب علماء الدلالة المحدثون يبلورون مشروعاً يقضي بأن يكون لكل لفظ معنى نواة، وذلك بالرجوع إلى حقيقة الوضع الأصلي الذي أنتج فيه تعدد المدلولات حول الدال الواحد، ولذلك نرى الآمدي يسوق الشاهد ويردفه بتأويل اللفظ المشترك، ففي قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء). يقول العلماء: القرء هو الحيض أو الطهر، وقد ترتب عن ذلك الاختلاف في تحديد مدلول واحد للفظ القرء) اختلاف بين علماء الأصول محل تحديد مدة مكوث المرأة المطلقة معتّدة. ومع ذلك عَدّ بعض اللغويين المحدثين تعدد مفاهيم اللفظ الواحد دليلاً على حيوية اللغة، لأن اللفظ أحادي المدلول قد يرهق الجهد الذاكري، يقول الدكتور الفاسي في ذلك: "وعليه يكون تعدد المعاني دليلاً على حيوية اللغة ورواجها فكيف يمكن أن ننادي بتركه لفائدة أحادية المعنى؟ علماً بأن أحادية المعنى لا يمكن أن تقوم إلا بتحجير اللغة والقضاء على حركيتها، أي قتلها، وعلماً كذلك بأن المجاز والسياق يعرضان اللفظ للتوسع الدائم"(29) . وعموماً فإن لتعيين المدلول الرئيسي للفظ المجمل أو المشترك، هو في حاجة إلى مزيد من الوعي اللغوي بحيث لا يلزم من تحديد مدلوله النواة، تعطيل لمطاطية الألفاظ داخل النظام اللغوي التي هي طبيعة كل عناصر اللغات التي تنزع نحو التجدد والتغير والتكيف مع الأوضاع المستجدة، وإن كان الغالب من العناصر اللغوية هي المفيدة لمدلول واحد نواة. ومن جهة ثانية فإن محاولة إثارة قضايا تخص الدلالة من قبل الآمدي، تؤخذ على أنها وعي لغوي بأهمية الآليات الذاتية للجملة العربية، معتمداً في ذلك سبيل تفكيك عناصرها، والوقوف على بؤرة الفعل الدلالي فيها، وذلك قصد استنباط قواعد عامة تصلح لأن تكون قوانين مطردة، لفهم كل الجمل وإمكانية إعادة الكتابة.
إن الإشكال الدلالي الذي يكتنف السياق اللغوي يمكن حله بصيغ التوضيح والتأويل، تلك الصيغ أطلق عليها الآمدي مصطلح "البيان". وهو لا يخرج في مفهومه عن الدليل الذي يفضي إلى العلم أو الظن.
يقول الآمدي معرفاً "البيان": أما البيان فاعلم أنه لما كان متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم، وكان ذلك مما يتوقف على الدليل، والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل ولم يخرج البيان عن التعريف، والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل"(30) . ورغم أن الدليل لا يوصل إلى العلم اليقيني بل إلى الظن، يبقى في عرف الآمدي بياناً، لأنه يعتقد أن الظن هو في حد ذاته مطلوب خبري يترتب عليه دلالة خاصة ليست هي بالتأكيد دلالة القطع واليقين، وللبيان صيغ متعددة قد تكون حسية أو عقلية أو شرعية أو عرفية، بل إن السكوت يعد بياناً إذ يقول الآمدي: "فحد البيان ما هو حد الدليل…) ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل "إلى غير ذلك".(31) فإذا اتضح مفهوم البيان وصيغته التي قد تكون صيغاً لغوية أو غير لغوية، فهل كل سياق لغوي في حاجة إلى بيان أم أن هناك سياقات مخصوصة لذلك؟ إن السياق اللغوي لا يخلو إما أن يكون واضح الدلالة، أو حد المعنى، معين المدلول، فهو في طبيعته التركيبية والدلالية مبيَّن، أو يكون السياق اللغوي مجمل المعنى، عام اللفظ، مطلق الدلالة فهو يحتاج لإظهار دلالته وتعيينها إلى صيغ البيان، وقد بُحث موضوع "البيان" في الدرس اللغوي الحديث تحت مصطلح التأويل الذي عُدّ البحث في لغة اللغات، أي فيما يجعل منظومات الرموز مؤسسة بالنسبة للمتكلم والمخاطب، للكاتب والقارئ، والتأسيس هنا يعني إقامة الروابط الطبيعية والبيئية بين الخطاب وسياقه الحيوي من اجتماعي وانثربولوجي وذاتي"(32) . إن ذلك النص الذي يحتاج إلى بيان أو تأويل لمنظومات رموزه، وكشف القناع عن سياقه الحيوي سماه الآمدي "المبيَّن" الذي يحتوي على بؤرة فاعلة في تركيبه تعطّل مفهوم دلالته الكلية يقول الآمدي شارحاً ذلك: "وأما المبيَّن فقد يطلق. ويراد به ما كان من الخطاب المبتدئ المستغني بنفسه عن بيان، وقد يراد به ما كان محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه، وذلك كاللفظ المجمل إذا بيّن المراد منه، والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترنت به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك"(33) ولعل أهم كاتب خص البيان بشرح مستوف لجوانبه هو بلا ريب "الجاحظ" الذي عاش في حدود القرن الثاني الهجري، يقول الجاحظ معرفاً البيان: "والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت على المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"(34) . والظاهر أن الآمدي قد حصل مفهوم البيان من تعريف الجاحظ ذلك أنه ليس هناك كبير اختلاف بين التعريفين، إلا أن الآمدي كان أعمق بيان من الجاحظ ذلك لربطه بين البيان كأداة لتأويل الدلالة، ووضوح المدلول وتعيينه، وعموم مصطلح البيان لدلالتي العلم والظن معاً، لأن حاصل البيان قد يكون علماً وقد يكون ظناً، أما الجاحظ فالغاية عنده من البيان هو الفهم والإفهام بأي شيء حصل ذلك، ولعل مرد التباين بين العالمين إلى مادة تطبيق كل منهما، فالآمدي إذا كان قد اتخذ من نصوص القرآن والأحاديث الشريفة مادة لتطبيقاته اللغوية ولاستنباط القواعد والسنن المطردة في كل خطاب لغوي عربي، فإن الجاحظ يكاد يقصر مفاهيمه اللغوية على كلام العرب وما فيه من عيّ وفصيح، وضرورة تحقيق غاية الفهم والإفهام من الخطاب اللغوي، على نقيض الآمدي، والأصوليين بصفة عامة، الذين تعارفوا على وجود دلالات مختلفة منها: الدلالة القطعية والدلالة الظنية.
إن المبيَّن يتفاوت إجماله وإيهامه، فهو ليس على درجة واحدة، وتبعاً لذلك فإن البيان وجب أن يجانس المبيَّن ولقد أوضح الآمدي هذه المسألة وأظهر أن البيان لا يخلو من أحد المظهرين: إما أن يكون أقوى دلالة من المبيَّن أو أدنى دلالة منه، إما أن يتساويا في ذلك فهو ممتنع يقول في ذلك: "إن كان المبيَّن مجملاً، كفى في تعيين أحد احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو مطلقاً، فلابد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص ودلالة المطلق على صورة التقييد"(35) . فالبيان يكون أدنى من المبيّن إذا كان المبيّن مجملاً وذلك في تحديد أحد مدلولاته من ضمن لائحة قد تطول من المدلولات، أما إذا كان المبيّن مطلقاً فالبيان يكون أقوى منه في الدلالة على التقييد وإذا كان المبيّن عاماً كذلك في دلالة البيان عن التخصيص. إن هذا التدقيق في رفع العموم المطلق أو الإجمال القائم في دلالة الخطاب اللغوي يدل على عمق التحليل الذي وسم تفكير الآمدي بسعيه إلى تأسيس قواعد شاملة بناء على ملاحظات تشمل البنية اللسانية وعلاقتها بالبنية الدلالية، وما يجب التنبيه عليه هو أن الآمدي يجعل غايته دائماً في أي تحليل لساني لبنية الجملة أو النص، هو طبيعة وهيئة الدلالة لأنها مدار الأمر كله في منظومة الاتصال والإبلاغ.
إن حاجة "اللغة" إلى بيان حاجة لا تعود إلى ذات المتكلم فحسب بل إلى قدرة المتلقي على تفكيك رسالة الخطاب. ولذلك عد الآمدي الخطاب المجمل غير صالح للتواصل والإبلاغ لأنه بمثابة لغة تخص المتكلم أنشأها بنفسه. يقول الآمدي في ذلك: "إنه لا فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان، وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان"(36) . ثم إن غاية الخطاب هو إيصال دلالة الرسالة إلى المتلقي وبذلك تحصل الفائدة من الإبلاغ، أما وأن يترك الخطاب المجمل دون بيان فسماه الآمدي لغواً، لأنه قصور عن نقل المدركات الذهنية إلى من نريد إبلاغهم بذلك، وقد حدّد العلماء القول الشارح لغاية إفادة المخاطب بتصور مفرد أو لتمييز متشابه، حملوا الباث تبعة الشرح والتعريف.(37)
إن حصول الفائدة من الخطاب متعلقة بتحقيق الفهم من خلال المضمون الدلالي المحمول في سياق الخطاب، أما إذا تعذر الفهم لم تحصل الفائدة وكان الخطاب لغواً يقول الآمدي مبيناً ذلك: "إنما المقصود من الخطاب إنما هو التفاهم، والمجمل الذي لا يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال لا يحصل منه التفاهم، فلا يكون مفيداً ومالا فائدة فيه لا تحسن المخاطبة به لكونه لغواً.(38) .
إن من تقسيمات الآمدي للألفاظ، قسماً سماه "اللفظ الظاهر" وهو اللفظ الواضح المعنى المنكشف الدلالة وهو الدال دلالة حقيقية أصلية، أو جعلَه العرف اللغوي ذا دلالة أصلية راجحة يقول الآمدي في تعريفه لهذا اللفظ: "اللفظ الظاهر ما دل على المعنى بالوضع الأصلي أو العرفي، ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً(39) . إن دلالة اللفظ الظاهر مفتوحة على التأويل المرجوح بدليل، وبالنظر إلى دلالة الظاهر الأصلية أو العرفية، يتأرجح اللفظ بينهما مع احتماله الدلالة على معنى آخر يسنده دليل، ويتمصرف اللفظ إلى مدلوله غير الظاهر بتأويل مقبول، يتراوح بين القوة والضعف بحسب طبيعة اللفظ، ويضطلع بالتأويل متلق مثالي له القدرة على تفكيك بنية الخطاب، والوقوف على بنية الدلالة العميقة متمكناً من تحديد طبيعة الظاهر من الألفاظ، وما يناسبه من التأويل قوة أو ضعفاً وما يوافقه من الدليل الكاشف عن مدلوله الراجح. ففي قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فلفظ "الفقراء" لفظ ظاهر، وتأويله هو الاقتصار على البعض من الفقراء دون الكل، لأن الهدف هو رفع حاجة هؤلاء البعض في توفير الصدقة لهم وكذلك الأمر بالنسبة للفظ "المساكين". إن اللفظ الظاهر لا يحوّل من مدلوله بوجود قرينة صارفة إلا إذا كان في سياق لغوي، ويعني ذلك أن اللفظ قد اكتسب دلالات هامشية إضافية عن مدلوله، وهو ما تنص عليه المباحث اللسانية الحديثة التي تجمع أن لا معنى للكلمة خارج سياقها اللغوي(40) . فاللفظ الظاهر على أساس ذلك، لا يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي وإنما الدلالة المقصودة تأتي من سياقه، ويبقى في أمر استجابة المتلقي للخطاب المتضمن لصيغ من اللفظ الظاهر أن يكون على وعي أن الأصل في اللفظ عدم صرفه عن ظاهر إلا إذا اقتضى ذلك دليل راجع باحتماله التأويل وإرادة معناه غير الحقيقي، من ذلك إذا كان اللفظ الظاهر حقيقة يحتمل أن يراد به المعنى المجازي، وإذا كان عاماً يحتمل التخصيص، وإذا كان مطلقاً يحتمل التقييد وغير ذلك من وجوه التأويل في حقل أصول الفقه.
إنما هو حري بأن يشار إليه بعد هذه التفريعات لحقل الأدلة اللغوية، أن هذا الإنجاز يعد كسباً مرحلياً في مسار التحوّل المنهجي للنظرية الدلالية، إذ بلغ الآمدي الغاية في وضع الحدود وحصر المفارقات الدلالية القائمة على أساس سبر عميق لبنية الخطاب لاسكتناه حقيقة البنية الدلالية، إذ الوصول إلى حصر سمات تمييزية بين خطاب وآخر يدل على أنه ثمة إمكانية منهجية، لإرساء قواعد علمية تغدو نموذجاً متكاملاً لضبط آليات الأحداث الكلامية بالوقوف على ما يشكل نسقها السياقي العام الذي ينتظم العناصر اللسانية في الخطاب الإبلاغي على وجه التحديد. إن ما أنهى الآمدي به كتابه "الإحكام" هو مبحثه في المفاضلة بين التعاريف الموصلة إلى كشف المعنى عن المبيَّن باعتماد معايير موضوعية، ضمن المقاييس التي تعطي للحد المعرف صفة الشمولية المقرونة بالعمق في التعريف أن يكون الحد: "مشتملاً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ولا استعارة ولا اشتراك ولا غرابة ولا اضطراب ولا ملازمة،" بل أن يكون الحد مشاكلاً للمعرف بطريق المطابقة أو التضمن …) فهو أولى لكونه أقرب من الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب، ولتحقيقه لغاية الإبلاغ وهو حصول الإفهام بلا زيادة ولا نقصان(41) . إن القيمة التفسيرية للتعريف، تستمد بعدها الدلالي من الحد المعرف حتى يغدو التعريف والمعرف، ثنائية ترسم مجالاً دلالياً يحصل فيه امتداد المعنى، لكنه امتداد يحتفظ بنفس متصورات الخطاب الذاتية مع تحول حتمي في النسق البنيوي للمداخل المعجمية، التي تشكل الخطاب المطلوب تفسيره وتأويله.
إن الغرض المتوخى من إدراج الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية ضمن الاهتمام الدلالي عند الآمدي، هو محاولة تأسيس رؤية نظرية قادرة على إيجاد كل التفسيرات لمستويات الخطاب، فيغدو بذلك الآمدي بمرتكزاته المعرفية حول اللسان العربي، أحد المؤسسين لنظرية لسانية تخص اللغة العربية التي تأخذ في ثنائية متلازمة، كل حيثيات الإنتاج اللغوي بدءاً بماهية الحدث الدلالي، وانتقالاً إلى فاعل الدلالة وقدراته الذاتية الكامنة وانتهاء عند متلقي الرسالة الإبلاغية وموقعه النفسي والاجتماعي والثقافي، هذه الثنائية المتلازمة التي نلخصها في مباحث الآمدي، طرفها الجانب المعرفي النظري الذي يؤسس لنظرية لغوية منطلقاتها- غالبه النص القرآني بأنظمته الخطابية وسننه في الإبلاغ، وطرفها الآخر التطبيق الإجرائي الذي يسعى إلى إخراج القاعدة اللغوية من حيز التنظيم والتجريد إلى حيز التطبيق والتمثيل، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل. ومن هنا تتبدى أهمية الضوابط الحاصرة لانتظام العناصر اللسانية الدالة في الخطاب، فنلقى السياق اللغوي ليس على درجة واحدة من وضوح الإحالة المرجعية، إّذ قد يتعطل الإرجاع لوجود خلل في متن الخطاب فتتحدد الدلالات ببروز المجال المرجعي وذلك بانتقاء عناصر استبدال تلغي عناصر الخطاب الآخر، أو تقوم بكتابتها بنمط مغاير لأنها قصُرت عن إيصال الدلالة، وذلك ما أفاض الآمدي الحديث حوله في مجال البيان والتأويل والتعريف…
(1) منهاج البحث عند مفكري الإسلام. ص79.
(2) البحر المحيط، ج1- ص19.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، ج1- ص7.
(4) منهاج البحث عند مفكري الإسلام. ص45.
(5) المرجع السابق، ص91.
(6) ص 117 Structures syntaxique ,N. chomsky ترجمه إلى الفرنسية. ميشال برودو Michel Braudeau).
(7) عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج3- ص285.
( وفيات الأعيان، ج3، ص293.
(9) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج3، ص285.
(10) الإحكام في أصول الأحكام المقدمة) الشيخ عبد الرزاق عفيفي.
(11) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج3 ، ص285.
(12) وفيات الأعيان –ابن خلكان، ج3، ص294.
(13) المقدمة، ج2، ص554.
(14) إمام الحرمين هو عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي.
(15) الإحكام في أصول الأحكام، ص3.
(16) المصدر السابق، ص8.
(17) المصدر نفسه، ص7.
(18) المصدر نفسه، ص4.
(19) المصدر نفسه- ج3. ص3.
(20) انظر فعل مباحث علم الدلالة الحديث: الدال والمدلول: ص42.
(21) Semantique descriptive, p65-66.
(22) الإحكام في أصول الأحكام. ج3. ص4.
(23) المصدر السابق. ج3.ص5.
(24) انظر –التعيين والتضمين في علم الدلالة- د. جوزيف شريم)- مجلة الفكر المعاصر، عدد 18/19 سنة 1982. ص72-73.
(25) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص10.
(26) اللسانيات واللغة العربية. ج. ص372.
(27) الإحكام في أصول الأحكام.
(28) اللسانيات واللغة العربية، ص372.
(29) المرجع السابق، ص374.
(30) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص25.
(31) المصدر السابق ج3، ص26.
(32) استراتيجية التسمية، التأويل وسؤال التراث، مطاع الصفدي، ص4، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30-31 سنة 1984.
(33) الإحكام، ج3، ص26.
(34) الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص82.
(35) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص31.
(36) المصدر السابق: ج3 ص45.
(37) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ضوابط المعرفة وأصول الإستدلال والمناظرة. ص62.
(38) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص52
(39) المصدر السابق، ج3. ص52.
(40) Element de linguistique generale, Andre Martine, P.65..
(41) انظر الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص282
بحـث
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 43 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 43 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث
لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 320 بتاريخ السبت 17 ديسمبر 2016 - 23:28
المواضيع الأخيرة
احصائيات
أعضاؤنا قدموا 16045 مساهمة في هذا المنتدى في 5798 موضوع
هذا المنتدى يتوفر على 11084 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو houda-56 فمرحباً به.
.: زوار ينبوع المعرفة :.
الثلاثاء 1 ديسمبر 2020 - 12:10 من طرف جمال ديكورك
» صور مشبات بافضل الديكورات والابداعات الجديده والمستمر في المشبات حيث نقوم بكافت اعمال المشبات بافضل الاسعار واجمل التصميم ديكورات روعه ديكورات مشبات حديثه افضل انواع المشبات في السعوديه افضل اشكال تراث غرف تراثية
الإثنين 23 نوفمبر 2020 - 14:30 من طرف جمال ديكورك
» صور مشبات صور مشبات رخام صور مشبات ملكيه صور مشبات فخمه صور مشبات روعه صور مشبات جد
الإثنين 26 أكتوبر 2020 - 12:59 من طرف جمال ديكورك
» صور مشبات ومدافى بتصميم مودران مشبات رخام جديده
الثلاثاء 26 مايو 2020 - 14:26 من طرف جمال ديكورك
» كراس التمارين والكتابة للسنة الاولى ابتدائي
الأحد 13 أكتوبر 2019 - 1:44 من طرف kaddour_metiri
» تصميم بابداع وعروض لجمال ديكور بيتلك صور مشبات مشبات رخام مشبات الرياض
الإثنين 14 يناير 2019 - 23:34 من طرف shams
» بيداغوجية الدعم بدل الاستدراك
الثلاثاء 31 يوليو 2018 - 23:31 من طرف shams
» بالمحبة والاقتداء ننصره.
الأربعاء 11 يوليو 2018 - 12:58 من طرف shams
» Le Nom .مراجعة
الجمعة 25 مايو 2018 - 17:22 من طرف أم محمد