شفوية الشعر الجاهلي
قد لا نبالغ- منذ البدء- حين نذهب إلى أن أحكامنا على الموروث الشعري العربي- من حيث بداياته وتطوراته- تظل نسبية، وذلك في ضوء نسبية الوثيقة النصية الكاملة لهذا الموروث، والتي لم تتوفر بالشكل المطلوب لدى الباحثين والمختصين من نقاد ومؤرخين.
فالنص التاريخي، تاريخياً كان، أم فكرياً، أم أدبياً، قد لا يقول الحقيقة مجرّدة، ولكنه يضعنا –على الأقل- على مقربة منها، بعد أن نتأمله ونستقرئه، ونغربل ما يمكن غربلته في ضوء ما نملك من آليات منهجية ومرجعيات ثقافية.
أما في غياب هذا النص أو عدم توفره كاملاً بين أيدينا، فإن ما نقرره من أحكام يظل –دوماً- نسبياً وقابلاً للأخذ والرد، غير أن ذلك يحفزنا على ديمومة البحث واستمراريته قصد كشف ذلك المجهول، ومن ثمة نظل على احتكاك دائم بالموروث الذي يمثل همزة الوصل بين ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله.
ومما لا يدع مجالاً للشك أن القصيدة العربية الجاهلية مرّت بمراحل من النمو والتطور حتى وصلت إلى الشكل الذي وصلت به إلينا، وقد ينطبق عليها ما ينطبق على الطفل منذ أن يكون جنيناً في بطن أمه إلى أن يبلغ مرحلة الولادة.
وهكذا فإن مطولات امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وغيرها لا تمثل –بأي حال من الأحوال- بدايات الشعر الجاهلي، ولكنها تمثل ذروة ما وصل إليه هذا الشعر في زمنه.
ومما يلفت الانتباه هنا أن الشاعر الجاهلي الذي عبّر –بشعره- تعبيراً ذاتياً عن وجوده وأحلامه وحبّه ومختلف مناحي حياته، لم يكن –رغم ذلك- يتصور الشعر عملاً فردياً، يعبر من خلاله عن ذاته الفردية، بل كان يتصوره نوعاً من النبوغ في التعبير عن أحلام القبيلة وأمالها ومخاوفها(1).
فمثل هذه الذاتية الفردية وظفت للتعبير عن الذات الجماعية في ظل علاقة التلاحم بين الشاعر وقومه ليكون –بذلك- صدىً للنفس الفردية التي تنقل ذلك الصدى إلى الجماعة، وكأنها مجرّد وسيط لتبليغ رسالة أو خطاب.
ومثل هذا الحكم يجرنا إلى قضية أهمّ، وهي المتمثلة في نوعية هذا الشاعر وماهية شعره، فهل صحيح –مثلاً- أنه ينظم الشعر اعتماداً على فطرته؟ وهل امتلك نصيباً وافراً من الثقافة مكّنته من أن يتفرد ويتميز عن باقي قومه؟.
ولئن كنا لا نجحد حق الشاعر الجاهلي من تلك الموهبة الفطرية التي تميز بها عن بقية أبناء قبيلته، حيث أن المواهب تتفاوت بين الأفراد والجماعات إلا أن الشاعر الجاهلي، فضلاً عن موهبته فقد امتلك شيئاً من الثقافة، -ثقافة الرؤية- وقد تكتسب هذه الثقافة من المثاقفة بإطلاعه على منتوج غيره من المعارف الإنسانية المختلفة، وقد تكتسب من التجارب والعبر الحياتية التي يفيد منها في حياته، وفي تجاربه وسلوكاته، ومن ثمة فحين يقول شعراً فهو لا يقول شيئاً غامضاً، ولكنه يعبر عما يحس به بقية أبناء قبيلته، بيد أنهم لا يستطيعون قولـه، وهذا ما نوافق فيه "أدونيس" الذي يرى أن ((الشاعر قبل الإسلام كان يقول ما يعرفه الذين يصغون إليه، لأنه يقول عاداتهم وتقاليدهم، مآثرهم وحروبهم انتصاراتهم وهزائمهم))(2).بيد أن هذه الثقافة التي امتلكها الشاعر، ظلت ثقافة شفوية، حيث أن الأصل الشعري العربي ((نشأ شفوياً ضمن ثقافة صوتية سماعية، وإلى أنه من جهة ثانية لم يصل إلينا مخطوطاً في كتاب جاهلي، بل وصل مدوّناً في الذاكرة عبر الرواية))(3).
فالعنصر الثقافي موجود لدى هذا الشاعر، لكنه لم يعتمد تدوين تلك الثقافة على الكتابة، ولكنه استمدها سماعياً، ومن ثمة فحين نقلها إلى غيره تمت بالوسيلة نفسها لتظل في مرحلة العطاء أيضاً صوتية- سماعية.
وإن كنا لا نستطيع الجزم أن جميع هؤلاء الشعراء لم يعرفوا الكتابة فهذا أمر آخر ليس هنا مجال الإفاضة في مناقشته، ولكننا نقرّ بأن شعره الذي نقله إلى غيره جاء عن طريق الرواية والمشافهة.
ولد الشعر العربي الجاهلي نشيداً –إذن- فقد نشأ مسموعاً لا مقروءاً، غُني ولم يكتب، كان بمنزلة الموسيقى الجسدية، فهو لم يقتصر على كونه كلاماً، بل كلام وشيء آخر، قد يتجاوز الكلام، وما يعجز عن نقله الكلام، وبخاصة المكتوب، وفي هذا ما يدلّ على عمق العلاقة وغناها وتعقدها بين الصوت والكلام، وبين الشاعر وصوته، إنها علاقة بين فردية الذات التي يتعذر الكشف عن أعماقها، وحضور الصوت الذي يتعذر تحديده حين نسمع الكلام نشيداً لا نسمع الحروف وحدها، وإنما نسمع كذلك الكيان الذي ينطق بها))(4).
ولعل ذلك يضطرنا للحديث عن الكلمة في الشعر الجاهلي من حيث وظيفتها ودلالاتها، فهي مقترنة لا محالة، أي أنها ليست معزولة عنه، ففي الكلمة –الموسيقى- النشيد، حيث أن هناك تلاحماً وانسجاماً بين الكلمة من حيث الدلالة المعنوية التي تؤديها وبين الصوت الذي تحدثه هذه الكلمة، إن الدال هنا ((هو طاقة متعددة الإشارات، إنه الذات وقد تحوّلت إلى كلام –غناء- إنه الحياة- لغة- أو في شكل لغوي، ومن هذا التوافق العميق بين قيم الكلام الصوتية في الشعر الجاهلي ومضموناته العاطفية والانفعالية))(5).
إن الشفوية تفترض السماع لأن الصوت يستدعي الأذن، ولهذا تميزت الشفوية في الشعر الجاهلي بفن خاص في القول الشعري ((لا يقوم في المعبر عنه، بل في طريقة التعبير، خصوصاً أن الشاعر الجاهلي كان يقول –إجمالاً- ما يعرفه السامع مسبقاً.
كان يقول عاداته وتقاليده، حروبه ومآثره، انتصاراته وانهزاماته، وفي هذا ما يوضح كيف أن قراءة الشاعر لم تكن فيما يفصح عنه، بل في طريقة إفصاحه))(6).
إذن، هناك علاقة حميمة بين الشفوية الشعرية في العصر الجاهلي وبين السماع، ولعل ذلك يرتد –بناء على اعتقاد أدونيس- إلى أن النقد الشعري الجاهلي أُسس على مبدأ السماع، وعلى مستوى الصلة بين الشعر وسامعه، ولم يكن الشاعر الجاهلي -إذن –ينشئ الشعر لنفسه، بل لغيره، لمن يسمعه ويتأثر به، ومن هنا كانت قدرة الشاعر على الابتكار الذي يؤثر في نفس السامع(7).
وأياً كان الأمر فإنه لا مندوحة لنا من تقبل رأي "أدونيس" بشيء من التحفظ، إذ أن أي شاعر في أي زمان أو مكان لا نتصوره حين ينظم شعراً إلا منطلقاً من ذاته، ومن رؤاه الخاصة ليخرج هذا الشعر بعد ذلك إلى العالم الخارجي، أي إلى الغير، هذا الغير المنفصل عن ذات الشاعر، ولكنه قد ينسجم مع ما تنتجه هذه الذات من رؤى ومشاعر، ومن ثمة فقد يؤثر بشعره في هذا الغير الذي هو السامع أو المتلقي، لا لأن الشاعر قد ألف شعره خصيصاً لذلك الآخر، على الرغم من ارتباط الشاعر بمفاهيم مجتمعه، ولكن لأن هذا الآخر قد وجد في ذلك الشعر الذي هو منتوج فردي –أصلاً- صدى مؤثراً في نفسه، لأن الشاعر الجاهلي –كما أسلفنا- ليس فرداً منعزلاً بل إنه يعيش ضمن مجتمع قبلي يؤثر فيه ويتأثر به.
ولا شك أن الشاعر الجاهلي قد تميز بقدرة خاصة على الابتكار الذي أهله لأنه يؤثر في سامعه الذي يتلقى منه الشعر، لا سيما أن هذا الشاعر، كان عليه أن ينشئ شعراً مطابقاً لما في نفس سامعه، حيث أن المسألة الجوهرية تكمن في مدى نجاح شعر الشاعر، هذا النجاح الذي يظلّ مرتبطاً بمدى فهم السامع وتأثيره بما يقوله الشاعر، ومن ثمة فإن هناك قاسماً مشتركاً بين الشاعر ومتلقي شعره، يمثله الذوق العام المشترك الذي يجعل أحدهما قادراً على التصوير والآخر قادراً على فهم هذا التصوير وتذوقه.
-3-
ويعد الشعر الجاهلي أصل الشعر الذي انبثق منه شعرنا العربي في مختلف عصوره، وذلك لأنه أرسى دعائم عمود الشعر، وثبّت نظام القصيدة فضلاً عن كونه مثل أهم القيم الفنية الأصيلة، وشكل مصدراً من مصادر الدراسة، ثم إنه استطاع أن يصور لنا فترة من أصعب الفترات التاريخية في حياتنا العربية ويرسمها وهي تجتاز مراحل نموها وتطورها(.
وقد سبق أن أشرنا من قبل إلى أن الشعر الجاهلي ارتبط –في بداية مراحل نموه- بالغناء ارتباطاً وثيقاً، حتى إن الشعر والغناء أصبحا يمثلان شيئاً واحداً عند العرب في تلك المرحلة المتقدمة، وكان الشاعر مغنياً وقاصاً في الوقت نفسه، ومن الأدلة القاطعة على ذلك الارتباط أن العرب القدماء كانوا يلقبون عدداً من الشعراء الذين ذاع صيتهم بألقاب تنم عن مدى ذلك التلاحم بين الشعر والغناء، فقد لقب عدّي بن ربيعة التغلبي أخي كليب وائل بالمهلهل، من الغناء بالشعر أو التهليل به، وهو عند العرب من قصّد القصائد وذكر الوقائع(9)، وقيل سمى كذلك لأنه أول من هلهل الشعر أي رققّه وغناه.
كما لقّب الأعشى بصنّاجة العرب انطلاقاً من أنه كان يغني شعره(10).
ولعل أولية الشعر الجاهلي تجرنا إلى الوقوف عندما اتّهم به هذا الشعر من ارتجال بحكم ما عرف به من مشافهة وتوارد الروايات الشفهية حول القصيدة الواحدة، حيث إن الرواة قد ينقلون القصيدة الواحدة بروايات مختلفة مما يحدث أنساقاً مختلفة في تراكيب القصيدة، لا سيما حين نجد راوية يقول "أنشدني" فلان كذا، ثم يأتي راوية آخر ويستعمل عبارة "أنشدني" هو أيضاً، ولكن برواية مخالفة مما يجعلنا نميل إلى رأي "زويتلر ومونرو" اللذين ينظران إلى هذا الشعر على أنه أغنية(11).
ولعل الارتجال هنا يرتد إلى عملية الصياغات الجاهزة، أو ما اصطلح عليه "بالقالب الصياغي" حيث أن المعجم اللغوي التصويري يمتح من نفس المعين الذي متح منه السابقون، فتأتي من ثمة التراكيب مكررة.
أما مسألة الإنشاد فمع أننا لا نستبعد أن يكون بعض الشعر الجاهلي قد أنشد وغُني، كما تشير إلى ذلك أمهات الكتب العربية التي أرّخت للأدب العربي القديم، أو وصفت بعض ملامحه في ضوء مراحل نموه و تطوره، إلاّ أن لفظة الإنشاد لا تعني دوماً أن ينشد الشعر مموسقاً، في حين أن اختلاف رواية الشعر أمر لا خلاف حوله.
إلا أن الارتجال في قول الشعر لا يعني أن جميع الشعراء الجاهليين سواء في القدرة الإبداعية من حيث التصرف في البناء اللغوي وابتكار المعاني، وليس شرطاً أن يكون هؤلاء الشعراء نهلوا من معين بعينه في جميع الأغراض، إذ أن لكل شاعر موهبته وشخصيته الشعرية لا محالة، ولعل ذلك ما يفسر لنا كيف أن شاعراً مثل النابغة الذبياني يختلف عن زهير بن أبي سلمى، وعنترة يختلف عن امرئ القيس من حيث الأغراض أحياناً، ومن حيث التصوير أحياناً أخرى. وإن كان ذلك لا ينفي –بالضرورة- وجود ((القالب الصياغي)) الذي مثل النَّموذج الشعري المحتذى:
((إن القالب الصياغي –العبارة المتداولة المتكررة موجودة حقاً، وهي إحدى التجهيزات التي يجب أن يتسلح بها ناقد الشعر القديم حين تتهيأ له إمكانيات كثيرة غيرها، إننا –في الواقع- نفرض أنفسنا نقاداً لذلك الشعر ونحن عرب، ومع ذلك تنقصنا خبرات كثيرة كانت تتوفر للأقدمين.
إن إحساسنا باللغة التي جاء فيها الشعر الجاهلي هو غير إحساس الخليل ابن أحمد والأصمعي، ومع ذلك نتسرع في جعل أنفسنا حكّاماً على كون هذه القطعة منحولة أو غير منحولة، لقد كان في القدماء من أطلق عليهم العلماء بالشعر))(12).
ولعل إتيان الشعر الجاهلي بواسطة الرواية الشفوية، قد سبب ذلك شيئاً من اللبس بين الأدب الشعبي والأدب الرسمي، وهنا لا بد من التمييز بين هذين النوعين من الشعر، فما بلغنا عن طريق المصادر المؤلفة مثل "الأصمعيات" و "المفضليات" و "طبقات" ابن سلام هو من الأدب الرسمي لا محالة، لأن هذا الشعر يختلف عن تلك الأشعار الشعبية التي تقال في ليالي السمر والمجالس الشعبية(13).
أما أن ننظر إلى كل أدب منقول عن طريق المشافهة وبواسطة الذاكرة التي هي وسيلة نقل عبر الأجيال على أنه أدب شعبي، فقول لا يخلو من مبالغة وتعميم لسبب بسيط وهو أن هذا الأدب يفقد مع الأيام خصائصه واستقلاليته، ويصبح أدباً خليطاً ومتداخلاً، ونحن إذ لا ننكر ما قد تسببه الذاكرة من تحريف أو تصحيف، وما يتحمله الرواة من تحويرات أو زيادات في بعض الشعر عن حسن نية أو عن سوئها، إلا أن كل ذلك لا يحملنا على التشكيك في هذا التراث الشعري الذي يعدّ الدعامة الجوهرية التي حافظت على خصائص أدبنا العربي ولغته منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً من الزمن، وعلينا أن نفرّق بين الدعوة إلى امتلاك المناهج التي نستطيع من خلالها، معرفة الزائف من الصحيح، وبين الدعوة التشكيكيّة التي هي في النهاية دعوة تدميرية للتراث العربي عامة ومما لا ريب فيه أن من أهم الدوافع التي أدّت بهؤلاء الذين أخذوا بفكرة ضياع النسبة وفقدان النص هو اعتمادهم على عدم استعمال الكتابة في الشعر، فما دامت الكتابة غير مستعملة، أو أن استعمالها يتم في إطار ضيق ومحدود، فإن الشعر –بالمقابل- كان غير مدوّن، وبذلك انعدمت وسيلة الحفظ العلمية(14)، فإذا كان العرب أميين لا يكتبون، لا سيما أن النقوش لم تكشف حتى الآن عن أبيات شعرية مكتوبة، فهذا ما يؤكد أن العرب كانت تشيع فيهم الأمية.
والواقع أن مسألة شيوع الأمية في الأوساط العربية القديمة تظل نسبية، حيث أن عدم شيوع الشعر مدوناً ليس دليلاً قاطعاً على عدم معرفة العرب للكتابة، فعلى الرغم من قلة شيوعها، كما تشير إلى ذلك الآيات القرآنية، وبعض المصادر العربية، فالمسألة في رأينا تكمن في محدودية تلك الكتابة وفي ضعف إمكانيات انتشارها، وليس في عدم وجودها.
وفي ضوء ما سبق، فإن فهم الشعر الجاهلي فهماً صحيحاً يتوقف على ضرورة النظر إليه على أنه كان ينظم مشافهة، ويؤلف جلّه من مواد تقليدية، فقد يعاد تركيبه ويخضع للتعديل باستمرار، ثم إن الرواة تناقلوه جيلاً بعد جيل مع إعادة مستمرة لصياغته فضلاً عن أن راوي هذا الشعر ((لم يكن مجرد ناقل لنصٍّ سابق غريب عليه، وإنما كان –في الوقت نفسه- شاعراً مؤلفاً وفناناً محترفاً يعيد بقدر غير قليل من الحرية نظم ما ينقله من نصوص ومواد شعرية قديمة))(15).
ولا شك أن الشعر الجاهلي مرّ بمراحل انحصرت في مرحلتين بارزتين هما مرحلة الإنشاء وصولاً إلى مرحلة التجميع والتدوين.
أما المرحلة الأولى فتتمثل في تلك الفترة الغامضة من تاريخ نمو هذا الشعر، حين كانت الرواية الشفوية هي وسيلة الجاهليين المثلى، إن لم تكن الوحيدة في رواية أشعارهم وحفظها، إذ عن طريق هذه الرواية وصل إلينا جلّ هذا الشعر، هذا القدر من الشعر الذي ظفر بعناية رواة القرن الثاني الهجري الذين ما فتئوا يجمعون نصوصه ويشرحونها ويدونونها(16).
ومن تتبع تاريخ الشعر الجاهلي يلاحظ أن هذا الشعر تنقل بين القبائل في شبه الجزيرة العربية ((في شبه دورة زمنية ومكانية وقبلية واضحة، فقد كان في أول الأمر، في ربيعة، ثم تحول الشعر في قيس، ثم استقر آخر الأمر في تميم))(17).
وحين نتحدث عن الرواة بدءاً من القرن الثاني الهجري، فأول ما يسترعي الانتباه أن هؤلاء كانوا يكتبون، ويحفظون الشعر في صحف ودواوين، غير أنهم لا يكتفون بمجرد التدوين، بل يحفظون هذا الشعر في صدورهم وذاكرتهم ثم ينقلونه في مختلف المجالس الأدبية والمحافل إنشاداً، وقد تم ذلك في جميع العصور الإسلامية(18).
وينقسم رواة الشعر إلى طبقات، وأولى تلك الطبقات طبقة الشعراء وهم قسمان أو طائفتان: منهم شعراء يروون شعر شاعر بعينه، فيحفظون هذا الشعر ويتأثرون به، ثم ينسجون شعراً متأثرين بما حفظوه وتمثلوه، وهم بذلك يقلّدون في بادئ الأمر، ثم يتحول ذلك التقليد الواعي إلى طبيعة وفطرة يصدرون عنها صدوراً فنياً، وتلك هي فئة الشعراء الرواة، هذه الفئة، يمكن بموجبها أن تسمّى ((مدرسة شعرية))(19).
كانت القبيلة –إذن- تعنى بالشعر عناية فائقة، ومن ثم فقد كانت هي بدورها مصدراً من مصادر شعر شعرائها ((ومصدراً من مصادر الشعر الذي يمدحها به شعراء القبائل الأخرى، ومن أجل ذلك أخذ العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري بعض شعر الجاهلية من هذه القبائل ومما يرويه رواة منها من شعر شعرائها))(20).
وإلى جانب طبقة رواة الشعر الذين ينقسمون إلى ثلاث طبقات هي: طبقة الشعراء الرواة ورواة الشاعر، ورواة القبيلة، فإن هناك طبقة من النسّاخ ظهرت في العصر الجاهلي ذاته، اشتغلت هذه الفئة بتدوين الصحف ثم بيعها في الأسواق، وقد كان بعض هؤلاء يحترفون النساخة ويؤجرون عليها، وليس القصد من ذلك أن الكتابة كانت منتشرة بشكل واسع بحيث يوفر القصائد ويجعلها في متناول الجميع، ولكن لندلل على أن أمر الكتابة لم يكن منعدماً في العصر الجاهلي، وممن كان ينسخ في الصحف عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب "رضي الله عنه"، ومالك بن دينار ((قال دخل عليّ جابر بن زيد وأنا أكتب مصحفاً، فقلت كيف ترى صنعتي هذه يا أبا الشعثاء؟ فقال: نِعْم الصنعة صنعتك))(21).
إن مسألة الكتابة أو التدوين أمر لا جدال في وجوده خلال العصر الجاهلي، وقد نسخت أعمال كثيرة، غير أن القضية تكمن في مدى انتشار الكتابة وذيوعها، حيث لا نتوقع أن إنساناً ما يستطيع في ظرف زمن قصير أن ينسخ كتاباً تتجاوز نسخه أصابع اليد، بل أن هناك من يذهب إلى أن هذا الناسخ لا ينسخ أكثر من نسخة واحدة:
((إن هذا التدوين الذي ذكرناه، على ما كان من وجوده بل انتشاره، لم يكن له من سعة هذا الانتشار ما يتيح وجود نسخ كثيرة من الديوان الواحد، تفي بحاجة القارئين آنذاك وأن ذيوع شعر الشاعر أو أخبار القبيلة ومآثرها لم يكن قائماً على القراءة من الديوان أو الكتاب، وإنما كان يقوم على الرواية الشفهية من فرد إلى فرد ومن جيل إلى جيل. أجل لقد كان هذا الشعر أو بعضه مدوناً -كما بينا –ولكن تدوينه كان مقصوراً على نسخة واحدة هي الأم أو المرجع، أو على نسخ قليلة محدودة ينسخها أفراد قلائل من الرواة أو الشعراء أو أبناء قبيلة الشاعر أو الممدوحين من سادة الأشراف، ثم يحفظ هؤلاء جميعاً أو بعضهم هذا الشعر ويساجلونه إنشاداً لا قراءة، في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم))(22).
وجملة القول إن الشعر الجاهلي الذي يمثل المدوّنة العربية الأصيلة في تراثنا الشعري نشأ سماعياً، قياساً إلى عدم توفر الإمكانيات التي تمكن من تدوينه وكتابته في زمنه، ومن ثمة كان من الصعوبة بمكان تحديد المدة الزمنية التي تؤرخ لظهور هذا الشعر في أول نشأة له، مما جعل المؤرخين والمهتمين بهذا الموروث يحددون فترة زمنية تعود إلى قرن ونصف قبل ظهور شعر امرئ القيس وغيره من شعراء الجاهلية البارزين، مما يعني أن القصيدة الجاهلية التي مثلها الشعراء الجاهليون الذين وصل إلينا شعرهم لا تمثل بدايات الشعر الجاهلي، ولكنها تمثل القصيدة الجاهلية في مرحلة نضجها واكتمالها الفني.
وفي ضوء المعطيات السابقة يبدو طبيعياً جداً أن يختلف الرواة في تحديد نسبة بعض الشعر الجاهلي، فقد ينسب بيت أو أكثر إلى غير قائله، وقد يضيع شعر كثير لأسباب سياسية أو اجتماعية أو لعدم حفظه والاحتفال به كأن يهمل بعض شعر الصعاليك الذين خلعتهم قبائلهم، فراحوا يعيشون حياة التشرد في أعماق الصحراء وضاعت أشعارهم بصرف النظر عن قيمتها الجمالية أو الموضوعية، كما أن هناك أسباباً أخرى لا محالة –أدت إلى ضياع شعر غزير- ولئن كنا على يقين من أن الدراسات القديمة والحديثة التي أنشئت حول قضية النحل والوضع في الأدب العربي عامة قد أعطت هذا الموضوع ما يستحقه، وأتت بالحجج والبراهين التي تضعف موقفاً هنا، وتقوي رأياً هناك، إلا أن ما نودّ الإشارة إليه ههنا أن ما وصل إلينا من هذا الموروث الأدبي العربي يمثل في مجموعه الوثيقة النصية الرسمية التي يمكن أن نحكم في ضوئها على هذا التراث الذي نحن ورثته الشرعيون، ونحن الأولى بغربلته ونقده.
(1) عفيف عبد الرحمن، الأدب الجاهلي في أثر الدارسين، قديماً وحديثاً، ص/ 24.
(2) مقدمة أدونيس، الشعرية العربية، ص/5.
(3) المرجع السابق، ص/ 5.
(4) المرجع السابق نفسه، ص/ 5.
(5) المرجع السابق، ص/ 6.
(6) المرجع نفسه، ص/ 6.
(7) المرجع السابق نفسه، ص/ 22.
( نوري القيس، الفروسية في الشعر الجاهلي ص 207.
(9) عبد المنعم خضر الزبيدي، مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي ص 15.
(10) أبو الفرج الأصفهاني الأغاني، جـ9 دار الكتب المصرية، ص 109.
(11) جيمز مونرو، النظم الشفوي في الشعر الجاهلي، ترجمة ص 10.
(12) المرجع السابق، ص 11.
(13) المرجع نفسه، ص 12.
(14) المرجع السابق، ص 13.
(15) عبد المنعم خضر الزبيدي، مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي، ص 285.
(16) إبراهيم عبد الرحمن محمد، الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية، ص 67.
(17) المرجع السابق نفسه، ص7 وانظر طبقات ابن سلام، ص32 .
(18) ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، ص 191.
(19) المرجع نفسه، ص 222، وانظر: طه حسين، في الأدب الجاهلي طـ4، ص 292.
(20) ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، ص 232.
(21) المرجع السابق نفسه، ص 136.
(22) المرجع السابق، ص 190.
بحـث
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 14 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 14 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحث
لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 320 بتاريخ السبت 17 ديسمبر 2016 - 23:28
المواضيع الأخيرة
احصائيات
أعضاؤنا قدموا 16045 مساهمة في هذا المنتدى في 5798 موضوع
هذا المنتدى يتوفر على 11084 عُضو.
آخر عُضو مُسجل هو houda-56 فمرحباً به.
.: زوار ينبوع المعرفة :.
الثلاثاء 1 ديسمبر 2020 - 12:10 من طرف جمال ديكورك
» صور مشبات بافضل الديكورات والابداعات الجديده والمستمر في المشبات حيث نقوم بكافت اعمال المشبات بافضل الاسعار واجمل التصميم ديكورات روعه ديكورات مشبات حديثه افضل انواع المشبات في السعوديه افضل اشكال تراث غرف تراثية
الإثنين 23 نوفمبر 2020 - 14:30 من طرف جمال ديكورك
» صور مشبات صور مشبات رخام صور مشبات ملكيه صور مشبات فخمه صور مشبات روعه صور مشبات جد
الإثنين 26 أكتوبر 2020 - 12:59 من طرف جمال ديكورك
» صور مشبات ومدافى بتصميم مودران مشبات رخام جديده
الثلاثاء 26 مايو 2020 - 14:26 من طرف جمال ديكورك
» كراس التمارين والكتابة للسنة الاولى ابتدائي
الأحد 13 أكتوبر 2019 - 1:44 من طرف kaddour_metiri
» تصميم بابداع وعروض لجمال ديكور بيتلك صور مشبات مشبات رخام مشبات الرياض
الإثنين 14 يناير 2019 - 23:34 من طرف shams
» بيداغوجية الدعم بدل الاستدراك
الثلاثاء 31 يوليو 2018 - 23:31 من طرف shams
» بالمحبة والاقتداء ننصره.
الأربعاء 11 يوليو 2018 - 12:58 من طرف shams
» Le Nom .مراجعة
الجمعة 25 مايو 2018 - 17:22 من طرف أم محمد